أيها الناس: خلق الله تعالى البشر، وابتلاهم بعبادته، ووعدهم إن
هم أطاعوه الجنة، وإنْ هم عصوا فالنار مثوى لهم.
وجعل على طريق الجنة دعاةً يدعون الناس إليها، ويرغّبونهم فيها، وجعل
على طريق النار دعاة يجرون الناس إليها، ويقذفونهم فيها.
وطريق الجنة محفوفة بالمكاره، مليئة بالعوائق، محاطة بالابتلاءات، وطريق النار محفوفة بالشهوات،
مزدانة بالزخارف، مليئة بما يرغب الناس في سلوكها؛ ولذا كان سالكوها أكثر من سالكي طريق الجنة،
وأهل النار أكثرَ من أهل الجنة كما دلت على ذلك الأحاديث(كما ثبت في البخاري في الرقاق باب الحشر: 6529).
من أجل ذلك كان على العبد الذي يريد النجاة من العذاب، والفوز بالجنان أن يصبر نفسه على الطاعات،
ويصابر عن الشهوات وفي الابتلاءات، ويرابط على ذلك، قائماً بأمور ربه، ثابتاً على دينه إلى أن يلقى الله تعالى،
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [آل عمران:200].
وبالصبر على الحق ينالُ العبد الإمامة في الدين، ويمكّن له في الأرض؛ كما مكّن الله تعالى للمؤمنين
من بني إسرائيل لما صبروا على ظلم فرعون وجبروته، وثبتوا على دينهم، فأورثهم الله تعالى
الأرض بسبب صبرهم (وَأَوْرَثْنَا القَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي
بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ
فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ) [الأعراف:137].
وبسبب صبرهم نالوا الإمامة في الدين، وشرفوا بهداية الناس إلى الحق؛ كما قال الله تعالى:
(وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآَيَاتِنَا يُوقِنُونَ) [السجدة:24].
ولما صبر يوسف عليه السلام على طاعة الله تعالى، وثبت على دينه، وصابر في الابتلاءات
نال الإمامة في الدين والدنيا، ورفعه الله تعالى من مملوك يخدم في قصر العزيز، إلى
أمين على خزائن الأرض، وقد نسب ما هو فيه من العز والرفعة إلى فضل الله تعالى
بسبب صبره على البلاء وتقواه لله (قَالُوا أَئِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللهُ
عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ المُحْسِنِينَ) [يوسف:90].
وأجر الصابرين عظيم، وثوابهم جزيل، (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ) [الزُّمر:10]،
والله تعالى مع الصابرين، يحوطهم بعنايته ورعايته، وينصرهم على أعدائهم، (كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ
غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) [البقرة:249]، ولهم البشرى من الله تعالى:
(وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الخَوْفِ وَالجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ وَالأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ) [البقرة:155].
والصبرُ من عزم الأمور (وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) [الشورى:43].
قال سعيد بن جبير -رحمه الله تعالى-: «يعني لمن حق الأمور التي أمر اللهُ تعالى بها، أي:
من الأمور المشكورة، والأفعال الحميدة التي عليها ثواب جزيل، وثناء جميل» (تفسير ابن كثير (4/120).
وقد علق النبي صلى الله عليه وسلم الخير على الصبر بقوله لابن عباس رضي الله عنهما:
«واعلم أن في الصبر على ما تكره خيراً كثيراً، وأن النصر مع الصبر» رواه أحمد والترمذي 2516 وقال: حسن صحيح).
وقال عمر رضي الله عنه: «وجدنا خير عيشنا بالصبر»(أخرجه أبو نعيم في الحلية : 1/50).
وقد سئل النبي صلى الله عليه وسلم فقيل له: «ما الإيمان؟" قال: "الصبر والسماحة» (رواه الترمذي (3579)، والنسائي (1/279).
وأخبر عليه الصلاة والسلام أن: «الصبر ضياء»(رواه مسلم: 223).
قال القرطبي في معنى ذلك: «هو الصبرُ على العبادات والمشاق والمصائب، والصبر على المخالفات
والمنهيات، كاتباع هوى النفس والشهوات، وغير ذلك، فمن كان صابراً في تلك الأحوال، متثبتاً فيها،
مقابلاً لكل حالٍ بما يليق به؛ أضاءت له عواقب أحواله، ووضحت له مصالح أعماله، فظفر بمطلوبه،
وحصل له من الثواب على مرغوبه»(المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم: 1/477).
وأما في الآخرة فإن أهل الإيمان واليقين يُجْزَون الغرفة ويلقون فيها تحية وسلاماً؛ وذلك بسبب
صبرهم على طاعة الله تعالى، ومجانبتهم ما يسخطه، ومقابلتهم الابتلاءات والإغراءات
بالصبر والمصابرة، والثبات والمرابطة على ما يرضى الله عزَّ وجلَّ.
إن الصبر هو طريق الأنبياء والمرسلين عليهم السلام، وبه تحلوا وتجملوا، مُدحوا به في
القرآن الكريم، وأثنى الله تعالى به عليهم (وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ)
[الأنبياء:85]، وأيوب عليه السلام ابتلاه الله تعالى في جسده ابتلاءً شديداً ثماني عشرة سنة،
حتى جفاه القريب والبعيد، وصبر هذه المدة الطويلة على هذا البلاء العظيم، وسأل الله تعالى
أن يكشف ضره؛ فعافاه الله سبحانه، وأثنى على صبره فقال سبحانه: (وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ العَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ) [ص:44].
وإسماعيل عليه السلام أخبر أباه أنه صابر على ابتلاء الله تعالى لهما عليهما السلام بذبحه
(قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي المَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ
سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ) [الصَّفات:102] .
وإمام المرسلين، وخاتم النبيين محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم أمره الله تعالى
بأن يصبر صبر أولي العزم من المرسلين (فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو العَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ)
[الأحقاف:35]، فصبر عليه الصلاة والسلام على أذى المشركين، ثم على أذى المنافقين،
ودعاهم إلى الله تعالى، وقابل صدودهم بالصبر، وأذاهم بالعفو، ويأتيه الملائكة عليهم
السلام يستأذنونه في إهلاك المكذبين من قومه، فيأبى ويصبر، ويقول: «بل أرجو أن يُخرج الله
من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئاً» (رواه البخاري: 3231).
وكانت الحمى مضاعفة عليه، وتمسه كما تمس رجلين من أمته، حتى قال ابن مسعود رضي الله
عنه: «دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يوعك فقلت: يا رسول الله، إنك توعك
وعكاً شديداً، قال: أجل، إني أوعك كما يوعك رجلان منكم...» (رواه البخاري: 5648).
تلك هي طريق الأنبياء والمرسلين عليهم الصلاة والسلام: صبر في الابتلاءات،
ومصابرة عن الشهوات، وثبات على الحق مهما كلف الأمر.
فمن رامَ مدارج السالكين، وابتغى منازل الصابرين، فعليه بالصبر على طاعة الله تعالى وعبادته،
والصبر عن معصيته مهما زينها له الناس، والصبر على مكاره الدنيا ومصائبها،
فمن حقق ذلك جُوزي على صبره بلا حساب.
جعلني الله وإياكم من الصابرين، وسلك بنا دروب الأنبياء والصالحين، وحمانا من سبل الهالكين إنه سميع مجيب.
(أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ المُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ)
[لقمان:17]، (لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ
الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ) [آل عمران:186].